فلسطين- سقوط الرهانات العربية والإسلامية، وصعود المقاومة

إن استعادة فلسطين ليست على رأس أولويات العرب في الوقت الراهن. لقد خاضوا معارك طاحنة من أجل فتحها، ثم ازدهرت تحت حكمهم في بواكير التاريخ، وتحديدًا في عام 636 ميلاديًا، الموافق 15 هجريًا، تحت القيادة الرشيدة للخليفة عمر بن الخطاب. بيد أنهم فقدوها بعد حوالي خمسة قرون، عندما استولى عليها الصليبيون في عام 1099 ميلاديًا.
لن يشعل العرب فتيل الحرب مرة أخرى إلا إذا تجسدت فيهم روح عمر بن الخطاب، أو ظهر من بينهم قائد مماثل، وهو أمر مستبعد تمامًا بالنظر إلى المعطيات الراهنة. الظروف التاريخية التي أفرزت شخصية عظيمة كعمر بن الخطاب قد ولت إلى غير رجعة، والقيم النبيلة التي كانت الدافع وراء إنجازاته التاريخية قد تلاشت. لقد بلغت القيادة العربية أوجها في القرن الأول الهجري، ثم أخذت الأمم الإسلامية الأخرى، كالفرس والأتراك والأكراد، تحل محلهم تدريجيًا.
قواعد حاسمة
وبالمثل، فإن المسلمين لن يخوضوا حربًا لاستعادة فلسطين في الوقت الحالي، فقد سبق لهم أن استعادوها من الصليبيين تحت قيادة صلاح الدين الأيوبي في عام 1187 ميلاديًا. وتكرار هذا السيناريو يبدو ضربًا من الخيال، ما لم يظهر صلاح الدين آخر. فالدول الإسلامية، كغيرها، تعطي الأولوية لمصالحها الوطنية الضيقة، وجيوشها تخدم تلك المصالح فقط. لقد تلاشت فكرة الأمة الإسلامية الموحدة في السياسة الدولية، ولم يتبق سوى جذوة من المشاعر الأخوية الدينية بين المسلمين.
باستثناءات نادرة، فإن غالبية الدول العربية والإسلامية لا تملك قرار الحرب والسلم، بل تخضع لنظام دولي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية. ومنذ البدايات الأولى للمشروع الصهيوني، دعمت أمريكا الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ثم مولت تأسيس إسرائيل، وتعهدت بضمان بقائها وتفوقها العسكري على جميع العرب والمسلمين مجتمعين. وهذا يعني أن أمريكا في حالة حرب مع كل من تسول له نفسه المساس بأمن إسرائيل ومستقبلها.
أمريكا تحول دون اندلاع حرب ضد إسرائيل، وإذا أخفقت في ذلك، فإنها تسارع لإنقاذها بكل ما أوتيت من قوة، حتى لو أضر ذلك بسمعتها ومبادئها. وفي إطار إدارتها للإقليم، تمنع أمريكا ثلاثة أمور: أولها، تمنع الحرب ضد إسرائيل. ثانيها، تمنع هزيمة إسرائيل. ثالثها، تمنع أي حرب نظامية بين الجيوش الرسمية في الإقليم، إلا بإذن أو إيحاء أو تنسيق معها. ولهذا السبب، صمتت عن الحرب العراقية الإيرانية، ولم تصمت عن غزو العراق للكويت. ولو سكتت عن غزو الكويت، لتكررت حوادث الغزو من الجار الأقوى للجار الأضعف، ولربما اختفت دول بأكملها من الخريطة السياسية للإقليم.
خلاصة القول: إن هامش المناورة المتاح لأي دولة عربية أو إسلامية فيما يتعلق بقرارات الحرب والسلم محدود للغاية، في ظل النظام الدولي الراهن، وفي ظل الهيمنة الأمريكية على القرارات السياسية والاقتصادية في المنطقة.
الإقليم يخضع لقاعدتين موجزتين لكنهما حاسمتان: القاعدة الأولى إسرائيلية، وهي "لا مكان للفلسطينيين بيننا"، والقاعدة الثانية أمريكية، وهي "إسرائيل قوية" بما يكفي لردع خصومها. هاتان القاعدتان تعملان على أرض الواقع، سواء قبل إعلان قيام إسرائيل أو بعده.
في الصفحة 173 من كتاب "النقراشي" للدكتورة هدى شامل أباظة، نقرأ عن مواجهة جرت في 10 أبريل/نيسان 1947، أي قبل صدور قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين إلى دولتين في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، وقبل إعلان قيام دولة إسرائيل في 15 مايو/أيار 1948.
إعادة تشكيل النخب
ما هي طبيعة هذه المواجهة؟ لقد جمعت بين محمود فهمي النقراشي، رئيس وزراء مصر آنذاك، وشخصيات أمريكية رفيعة المستوى، قدموا إلى مصر وعرضوا على رئيس الوزراء طلبًا صريحًا: أن تقدم مصر المساعدات اللازمة لتهجير عرب فلسطين إلى مناطق بديلة على ضفاف نهري دجلة والفرات، على أن تتولى أمريكا تحسين أنظمة الري على النهرين، لتوفير أراضٍ زراعية واسعة غير مستغلة، وتسهيل عملية التهجير وجعلها أكثر جاذبية.
ماذا كان رد رئيس وزراء مصر؟ النقراشي، الذي كان ينتمي إلى المدرسة الوطنية التقليدية التي تركز على استقلال مصر عن بريطانيا، أجاب زائريه الأمريكيين: "هذه ستكون بمثابة حرب صليبية جديدة، وأرجو ألا تستهين بها أمريكا. وإذا نجحت أمريكا في تهجير الفلسطينيين، فستتحمل غضب العرب نتيجة هذا الاضطهاد الذي يفوق في أثره ونتائجه الاضطهاد القديم الذي يزعم اليهود أنه أصابهم". وأردت من هذا التذكير أن الأمريكيين، على أعلى المستويات السياسية، كانوا يبحثون عن أماكن بديلة لتهجير الفلسطينيين إليها حتى قبل اندلاع الحرب وقبل عمليات التهجير الفعلية في الفترة 1948-1949.
وفي هذا السياق، قامت أمريكا بإعادة تشكيل النخب الحاكمة في العالم العربي، وخاصة في محيط إسرائيل، لتواكب الدولة الصهيونية الجديدة. هذه النخب الجديدة حلت محل النخب الوطنية التقليدية التي قاومت الاستعمار وسعت إلى الاستقلال وحكم الدستور والقانون. فبعد أقل من عام على قيام إسرائيل، وقع أول انقلاب عسكري، انقلاب حسني الزعيم في سوريا في مارس 1949، الذي كان مقربًا من أمريكا وعرض عليها توطين ربع مليون لاجئ فلسطيني في سوريا.
تلاه انقلاب سامي الحناوي في أغسطس 1949، ثم انقلاب أديب الشيشكلي في ديسمبر 1949، الذي استمر حتى خلعه في انقلاب العقيد فيصل الأتاسي في فبراير 1954. كانت انقلابات سوريا بمثابة دروس تمهيدية استُفيد منها في ترتيب انقلابات لاحقة في عدد من البلدان العربية المهمة. هذه الانقلابات أسست أنظمة عسكرية مستقرة، في كنفها نما المشروع الصهيوني وازدهر، حتى بلغ مستوى من القوة يفوق توقعات مؤسسيه.
الأمر الهام فيما يخص توفير أماكن بديلة للفلسطينيين المهجرين، هو أن انقلاب الزعيم عرض على الأمريكيين توطين ربع مليون فلسطيني، ثم طلبت أمريكا من الشيشكلي توطين ثمانين ألف فلسطيني، فرد بعرض توطين مائتي ألف، لكنه فشل في إقناع الحكومة السورية بالمشروع. وكان الرئيس الأمريكي هاري ترومان قد حاول مع إسرائيل، عندما صدر قرار الأمم المتحدة في 11 ديسمبر 1948 الذي يكفل حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم، بإقناعها بقبول عودة اللاجئين الفلسطينيين، مقابل مساعدات مالية ضخمة، لكنها رفضت ذلك، معتبرة إياه دعوة للانتحار.
تحولات تاريخية
نحن نتحدث الآن عن مسار تاريخي يمتد لحوالي مئة وخمسين عامًا، من عام 1881، وهو العام الذي تدفقت فيه هجرات اليهود من روسيا وشرق أوروبا عقب الاضطرابات التي تلت اغتيال القيصر الروسي ألكسندر الثاني، وحتى حرب الإبادة الصهيونية في شتاء 2023 وربيع 2024.
هذا المسار التاريخي الممتد شهدت فيه المنطقة سلسلة من التحولات الهائلة. في العام الذي بدأت فيه موجات هجرة اليهود الروس والأوروبيين الشرقيين إلى فلسطين، سقطت تونس تحت الاحتلال الفرنسي، وبعدها بعام سيطرت بريطانيا على مصر. تحررت تونس وأصبحت دولة مستقلة، وتحررت مصر وأصبحت دولة مستقلة، ولكن فلسطين لا تزال تناضل من أجل الحرية والاستقلال.
إن حرية فلسطين واستقلالها لن يتحقق على يد العرب ولا على يد المسلمين. وإذا انتظرنا العرب والمسلمين، فسوف يطول الانتظار إلى ما لا نهاية.
لم يوقظ حاكم عربي نخوة العروبة مثلما فعل الرئيس جمال عبد الناصر (1918-1970)، ولم يوقظ حاكم مسلم حمية الإسلام مثلما فعل الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود (1906-1975). مع الرئيس عبد الناصر بلغت فكرة الحل العروبي ذروتها، ومع الملك فيصل بلغت فكرة الحل الإسلامي غايتها، ولكن لم يكن لدى أي منهما حل للقضية الفلسطينية، سواء من منظور عروبي أو إسلامي.
في الصفحات 199 وما بعدها، وفي فصل بعنوان "حروب الورق"، يتحدث محمد حسنين هيكل (1923-2016) في كتابه "الانفجار 1967" عن أجواء القمة العربية الثالثة في العاصمة المغربية الرباط في سبتمبر 1965، حيث طالبت بعض الوفود العربية بمطلب حاسم هو "تحرير فلسطين من النهر إلى البحر"، أي استعادة فلسطين كاملة، وإزالة دولة إسرائيل تمامًا، التي لم تكمل آنذاك عامها العشرين.
مزايدات ومتاجرات سياسية
كانت سوريا تتزعم هذا التوجه، وكان الرئيس جمال عبد الناصر يعتبر ذلك مزايدة عليه وإحراجًا لقيادته. لهذا، وقبل انعقاد المؤتمر بأسبوعين، أعلن أن مؤتمرات القمة العربية تحولت إلى متاجرات سياسية بالقضية ومزايدات بالشعارات القومية، وحذر من أنه إذا استمر الوضع على هذا المنوال، فإن مصر ستضطر إلى الانسحاب من مؤتمرات القمة، ثم تتحمل مسؤولياتها التاريخية وحدها.
وقبل انعقاد المؤتمر بثلاثة أيام، توجه الملك فيصل إلى القاهرة في زيارة للرئيس عبد الناصر، ودار بينهما حوار حول المتاجرة بالقضية الفلسطينية في مؤتمرات القمة. وهنا ينقل هيكل عن محضر الاجتماع المغلق بين الزعيمين صباح العاشر من سبتمبر 1965:
1 – الرئيس عبد الناصر قال: "هم يطالبون الآن بتحرير فلسطين وغيرها من الأراضي العربية عن طريق العمل المسلح، وهذه أهداف قد تكون مطلوبة، ولكن تحقيقها مرهون بأجيال مقبلة، وبأوضاع أخرى تكون فيها الأمة العربية أحسن حالًا وأشد قوة وأكثر تماسكًا. وأنا لم أتردد في أن أقف في اجتماع عام، وعلى مسمع من كل الجماهير العربية، وأقول إنه ليست عندي خطة لتحرير فلسطين، وكنت أعلم مقدمًا أن هذا الكلام سوف يحدث خيبة أمل لدى الشعوب العربية، ولكني قبلت المسؤولية بواجب الحقيقة.
فنحن بالفعل جميعًا لا نملك خطة لتحرير فلسطين الآن، ولا نملك الوسائل لتحقيق ذلك الهدف على فرض أننا نملك الخطة، واعتقادي أن الصراع بيننا وبين إسرائيل قضية مائة سنة، وإذن فالمزايدة في هذا الموضوع الآن لن يكون من شأنها إلا تضييع الممكن في طلب المستحيل". انتهى الاقتباس من كلام الرئيس عبد الناصر.
2 – الملك فيصل قال إنه: لا يفهم السبب الذي يحدو بالبعض منا إلى أن يقولوا كلامًا هم أول من يعرف أنه فوق طاقتهم، لكنهم يتكلمون لإثارة الرأي العام، وهذا هدفهم بصرف النظر عن النتائج، وهو على أية حال يتفهم موقف الرئيس، لكنه لا يستطيع أن يسانده في التصدي لهذه المزايدات، فلو نطقت بكلمة واحدة – طال عمرك – لاتّهمونا على الفور بالتخلف والرجعية وبأننا عملاء للأميركان. والحقيقة – فخامة الرئيس – أن التصدي لهذه المزايدات لا يجيء إلا منك، فلا يفل الحديد إلا الحديد كما يقولون". انتهى الاقتباس من كلام الملك فيصل.
في مؤتمر القمة العربية الأول (13-17 يناير 1964)، طالب الرئيس السوري اللواء أمين الحافظ (1921-2009) بشن حرب عربية شاملة ضد إسرائيل وإزالتها بالقوة، ولكن الرد العربي كان بالإجماع: لا نستطيع.
منذ عام 1964 وحتى عام 2024، أي على مدى ستين عامًا، بدأت مؤتمرات القمة العربية بالمزايدات الكلامية، وانتهت بالخواء والعدم، بدأت بالأمنيات الطموحة، وانتهت بالانكشاف والتعرية.
لقد سقط الرهان العربي، ومعه الرهان الإسلامي.
صمود سلاح المقاومة لمدة ستة أشهر في وجه الإبادة الصهيونية أو الصليبية الجديدة – بتعبير رئيس وزراء مصر محمود فهمي النقراشي باشا (1888-1948) – يفتح آفاقًا جديدة للقضية والمنطقة بأكملها، ويؤسس لمرحلة من التحولات الكبرى:
أولها: الرهان على الشعب الفلسطيني.
وهذا سيكون موضوع مقال الخميس المقبل بمشيئة الله تعالى.
